فصل: تفسير الآية رقم (45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (45):

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}
{وَكَتَبْنَا} عطف على {أَنزَلْنَا التوراة} [المائدة: 44] والمعنى قدرنا وفرضنا {عَلَيْهِمْ} أي على الذين هادوا، وفي مصحف أبي {وأنزلنا على بني إسرائيل} {فِيهَا} أي في التوراة، والجار متعلق بكتبنا، وقيل: حذوف وقع حالًا أي فرضنا هذه الأمور مبينة فيها، وقيل: صفة لمصدر محذوف أي كتبنا كتابة مبينة فيها. {أَنَّ النفس بالنفس} أي مأخوذة أو مقتولة أو مقتصة بها إذا قتلتها بغير حق، ويقدر في كل مما في قوله تعالى: {والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن} ما يناسبه كالفقء. والجدع والصلم والقلع، ومنهم من قدر الكون المطلق وقال: إنه مرادهم أي يستقر أخذها بالعين ونحو ذلك. وقرأ الكسائي: {العين} وما عطف عليه بالرفع، ووجهه أبو علي الفارسي بأن الكلام حينئذ جمل معطوفة على جملة {أَنَّ النفس بالنفس} لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، فإن معنى كتبنا عليهم أن النفس بالنفس قلنا لهم: النفس بالنفس، فالجملة مندرجة تحت ما كتب على بني إسرائيل، وجعله ابن عطية على هذا القول من العطف على التوهم وهو غير مقيس، وقيل: إنه محمول على الاستئناف عنى أن الجمل إسمية معطوفة على الجملة الفعلية، ويكون هذا ابتداء تشريع وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة، وقيل: إنه مندرج فيه أيضًا على هذا، والتقدير وكذلك العين بالعين إلخ لتتوافق القراءتان. وقال الخطيب: لا عطف، والاستئناف عناه المتبادر منه، والكلام جواب سؤال كأنه قيل: ما حال غير النفس؟ فقال سبحانه: {العين بالعين} إلخ، وقيل: إن العين وكذا سائر المرفوعات معطوفة على الضمير المرفوع المستتر في الجار والمجرور الواقع خبرًا، والجار والمجرور بعدها حال مبينة للمعنى، وضعف هذا بأنه يلزمه العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل ولا تأكيد، وهو لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة. وأجيب بأنه مفصول تقديرًا إذ أصله النفس مأخوذة أو مقتصة هي بالنفس إذ الضمير مستتر في المتعلق المقدم على الجار والمجرور بحسب الأصل وإنما تأخر بعد الحذف وانتقاله إلى الظرف كذا قيل، وهو يقتضي أن الفصل المقدر يكفي للعطف وفيه نظر، ويقدر المتعلق على هذا عامًا ليصح العطف إذ لو قدر النفس مقتولة بالنفس والعين لم يستقم المعنى كما لا يخفى فليفهم.
واعلم أن النفس في كلامهم إذا أريد منها الإنسان بعينه مذكر، ويقال: ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص، وإذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لا غير، وتصغيرها نفيسة لا غير، والعين عنى الجارحة المخصوصة مؤنثة، وإطلاق القول بالتأنيث لا يظهر له وجه إذ لا يصح أن يقال: هذه عين هؤلاء الرجال، وأنت تريد الخيار، والأذن مثلها، والأنف مذكر لا غير، والسن تؤنث ولا تذكر وإن كانت السن من الكبر لكن ذكر ابن الشحنة أن السن تطلق على الضرس والناب، وقد نصوا على أنهما مذكران وكذا الناجذ والضاحك والعارض، ونص ابن عصفور على أن الضرس يجوز فيه الأمران، ونظم ما يجوز فيه ذلك بقوله:
وهاك من الأعضاء ما قد عددته ** تؤنث أحيانًا وحينًا تذكر

لسان الفتى والإبط والعنق والقفا ** وعاتقه والمتن والضرس يذكر

وعندي الذراع والكراع مع المعى ** وعجز الفتى ثم القريض المحبر

كذا كل نحوي حكى في كتابه ** سوى سيبويه وهو فيهم مكبر

يرى أن تأنيث الذراع هو الذي ** أتى وهو للتذكير في ذلك منكر

وقد شاع أن ما منه اثنان في البدن كاليد والضلع والرجل مؤنث، وما منه واحد كالرأس والفم والبطن مذكر، وليس ذاك طرد، فإن الحاجب والصدغ والخد والمرفق والزند كل منها مذكر مع أن في البدن منه اثنين، والكبد والكرش فإنهما مؤنثان وليس منهما في البدن إلا واحد، وتفصيل ما يذكر ولا يؤنث وما يؤنث ولا يذكر من الأعضاء يفضي إلى بسط يد المقال، والكف أولى قتضى الحال هذا.
{والجروح قِصَاصٌ} بالنصب عطف على اسم أنَّ، و{قِصَاصٌ} هو الخبر، ولكونه مصدرًا كالقتال، وليس عين المخبر عن يؤوّل بأحد التأويلات المعروفة في أمثاله، والكسائي كما قرأ بالرفع فيما قبل قرأ به هنا أيضًا، وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وإن نصبوا فيما تقدم رفعوا هنا على أنه إجمال لحكم الجراح بعد ما فصل حكم غيرها من الأعضاء، وهذا الحكم فيما إذا كانت بحيث تعرف المساواة كما فصل في الكتب الفقهية.
واستدل بعموم {أَنَّ النفس بالنفس} من قال: يقتل المسلم بالكافر والحر بالعبد والرجل بالمرأة، ومن خالف استدل بقوله تعالى: {الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والانثى بالانثى} [البقرة: 178] وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مؤمن بكافر» وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه، والمراد بما روى الحربي لسياقه «ولا ذوعهد في عهده»، والعطف يقتضي المغايرة، وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قتل مسلمًا بذمي، وذكر ابن الفرس أن الآية في الأحرار المسلمين لأن اليهود المكتوب عليهم ذلك في التوراة كانوا ملة واحدة ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر، وكانوا كلهم أحرارًا لا عبيد فيهم، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء لأن الاستبعاد من الغنائم، ولم تحل لغيره عليه الصلاة والسلام، وعقد الذمة لبقاء الكفار ولم يقع ذلك في عهد نبي بل كان المكذبون يهلكون جميعًا بالعذاب، وأخر ذلك في هذه الأمة رحمة انتهى.
وأنت تعلم أن اللفظ ظاهر في العموم لكن لم يبقوه على ذلك، فقد قال الأصحاب: لا يقتل المسلم بالمستأمن ولا الذمي به لأنه غير محقون الدم على التأبيد، وكذا كفره باعث على الحراب لأنه على قصد الرجوع، ولا المستأمن بالمستأمن استحسانًا لقيام المبيح، ويقتل قياسًا للمساواة، ولا الرجل بابنه لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقاد الوالد بولده» وهو باطلاقه حجة على مالك في قوله: يقاد إذا ذبحه ذبحًا، ولأنه سبب لإحيائه، فمن المحال أن يستحق له إفناؤه، ولهذا لا يجوز له قتله وإن وجده في صف الأعداء مقاتلًا أو زانيًا وهو محصن، والقصاص يستحقه المقتول أولًا ثم يخلفه وارثه، والجد من قبل الرجال والنساء وإن علا في هذا نزلة الأب، وكذا الوالدة والجدة من قبل الأم أو الأب قربت أو بعدت لما بينا، ولا الرجل بعبده ولا مدبره، ولا مكاتبه ولا بعبد ولده لأنه لا يستوجب لنفسه على نفسه القصاص ولا ولده عليه، وكذا لا يقتل بعبد ملك بعضه لأن القصاص لا يتجزأ فليفهم، واستدل بها على ما روي عن الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه من أنه لا يقتل الجماعة بالواحد لقوله تعالى فيها: {أَنَّ النفس بالنفس} بالإفراد، وأجيب بأن حكمة القصاص وهو صون الدماء والأحياء اقتضت القتل، وصرف الآية عما ذكر فإنه لو كان كذلك قتلوا مجتمعين حتى يسقط عنهم القصاص، وحينئذ تهدر الدماء ويكثر الفساد كذا قيل.
{فَمَن تَصَدَّقَ} أي من المستحقين للقصاص {بِهِ} أي بالقصاص أي فمن عفا عنه، والتعبير عن ذلك بالتصدق للمبالغة في الترغيب {فَهُوَ} أي التصدق المذكور {كَفَّارَةٌ لَّهُ} للمتصدق كما أخرجه ابن أبي شيبة عن الشعبي وعليه أكثر المفسرين، وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الآية فقال: «هو الرجل يكسر سنه أو يجرح من جسده فيعفو فيحط عنه من خطاياه بقدر ما عفا عنه من جسده، إن كان نصف الدية فنصف خطاياه، وإن كان ربع الدية فربع خطاياه، وإن كان ثلث الدية فثلث خطاياه، وإن كان الدية كلها فخطاياه كلها».
وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن عدي بن ثابت «أن رجلًا هتم فم رجل على عهد معاوية رضي الله تعالى عنه فأعطي دية فأبى إلا أن يقتص فأعطى ديتين فأبى فأعطى ثلاثًا فحدث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: من تصدق بدم فما دونه فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت» وقيل: الضمير عائد إلى الجاني، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن جرير ومجاهد وجابر فيما أخرجه عنهما ابن أبي شيبة، ومعنى كون ذلك كفارة له على هذا التقدير أنه يسقط به ما لزمه ويتعين عليه أن يكون خبر المبتدأ مجموع الشرط والجزاء حيث لم يكن العائد إلا في الشرط، وإليه ذهب العلامة الثاني، وقيل: إن في الجزاء عائدًا أيضًا باعتبار أن هو عنى تصدقه فيشتمل بحسب المعنى على ضمير المبتدأ، فالتعين ليس سلم، وقال بعضهم: إنه يحتمل أن يكون معنى الآية أن كل من تصدق واعترف بما يجب عليه من القصاص، وانقاد له فهو كفارة لما جناه من الذنب، ويلائمه كل الملاءمة قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بما أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} فضمير {لَهُ} حينئذ عائد إلى المتصدق مرادًا به الجاني نفسه، وفيه بعد ظاهر، وقرأ أبيّ {فهو كفارته له}، فالضمير المرفوع حينئذ للمتصدق لا للتصدق، وكذا الضميران المجروران والإضافة للاختصاص واللام مؤكدة لذلك، أي فالمتصدق كفارته التي يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء لأن بعض الشيء لا يكون ذلك الشيء، وهو تعظيم لما فعل حيث جعل مقتضيًا للاستحقاق اللائق من غير نقصان، وفيه ترغيب في العفو، والآية نزلت كما قال غير واحد لما اصطلح اليهود على أن لا يقتلوا الشريف بالوضيع والرجل بالمرأة، فلم ينصفوا المظلوم من الظالم، وعن السيد السند أن القصاص كان في شريعتهم متعينًا عليهم فيكون التصدق مما زيد في شريعتنا، وقال الضحاك: لم يجعل في التوراة دية في نفس ولا جرح، وإنما كان العفو أو القصاص وهو الذي يقتصيه ظاهر الآية.

.تفسير الآية رقم (46):

{وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)}
{وَقَفَّيْنَا على ءاثارهم} شروع في بيان أحكام الإنجيل كما قيل إثر بيان أحكام التوراة، وهو عطف على {أَنزَلْنَا التوراة} [المائدة: 44] وضمير الجمع المجرور للنبيين الذين أسلموا كما قاله أكثر المفسرين، واختاره علي بن عيسى والبلخي، وقيل: للذين فرض عليهم الحكم الذي مضى ذكره، وحكي ذلك عن الجبائي وليس بالمختار والتقفية الاتباع، ويقال: قفا فلان إثر فلان إذا تبعه، وقفيته بفلان إذا أتبعته إياه، والتقدير هنا أتبعناهم على آثارهم {بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ} فالفعل كما قيل: متعد لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بالباء، والمفعول الأول محذوف، و{على ءاثارهم} كالساد مسده لأنه إذا قفا به على آثارهم فقد قفاهم به، واعترض بأن الفعل قبل التضعيف كان متعديًا إلى واحد، وتعدية المتعدي إلى واحد لثان بالباء لا تجوز سواء كان بالهمزة أو التضعيف، ورد بأن الصواب أنه جائز لكنه قليل، وقد جاء منه ألفاظ قالوا: صك الحجر الحجر، وصككت الحجر بالحجر، ودفع زيد عمرًا ودفعت زيدًا بعمرو أن جعلته دافعًا له. وذهب بعض المحققين إلى أن التضعيف فيما نحن فيه ليس للتعدية، وأن تعلق الجار بالفعل لتضمينه معنى المجيء أي جئنا بعيسى ابن مريم على آثارهم قافيًا لهم فهو متعد لواحد لا غير بالباء، وحاصل المعنى أرسلنا عيسى عليه السلام عقيبهم {مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ} حال من عيسى مؤكدة فإن ذلك من لازم الرسول عليه الصلاة والسلام.
{وءاتيناه} عطف على {ثُمَّ قَفَّيْنَا}، وقرأ الحسن بفتح الهمزة، ووجه صحة ذلك أنه اسم أعجمي فلا بأس بأن يكون على ما ليس في أوزان العرب، وهو بأفعيل أو فعليل بالفتح، وإما إفعيل بالكسر فله نظائر كإبزيم وإحليل وغير ذلك {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} كما في التوراة، والجملة في موضع النصب على أنها حال من الإنجيل، وقوله تعالى: {وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ} عطف على الحال وهو حال أيضًا، وعطف الحال المفردة على الجملة الحالية وعكسه جائز لتأويلها فرد وتكرير هذا لزيادة التقرير، وقوله عز وجل: {لّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ} عطف على ما تقدم منتظم معه في سلك الحالية، وجعل كله هدى بعد ما جعل مشتملًا عليه مبالغة في التنويه بشأنه لما أن فيه البشارة بنبينا صلى الله عليه وسلم أظهر، وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه، وجوز نصب {هُدًى وَمَوْعِظَةً} على المفعول لها عطفًا على مفعول له آخر مقدر أي إثباتًا لنبوته وهدى إلخ، ويجوز أن يكونا معللين لفعل محذوف عامل فيه أي: وهدى وموعظة للمتقين آتيناه ذلك.